فصل: مناسبة الآية لما قبلها:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



لكن النفس حين تشتهي فإنها تشتهي شيئًا بعينه، فأنت إذن تستطيع أن تعرف المعوق من قبل نفسك أم من قبل الشيطان، فإن وقفت عند معصية واحدة لا تتعداها وتلح عليك هذه المعصية، وكلما عزّ عليك باب من أبوابها تجد بابًا آخر لتصل إليها، فتلك شهوة نفسك. وإن عزّت عليك معصية تنتقل إلى معصية أخرى فهذا من عمل الشيطان؛ لأن الشيطان لا يريد عاصيًا من لون واحد، وإنما يريدك عاصيًا على إطلاقك.
وعداوة الشيطان- كما نعلم- هي عداوة مسبقة؛ فقد امتنع اليشطان عن السجود لآدم بحجة أنه خير من آدم. وحذر الله آدم. ولابد أن آدم عليه السلام قد نقل هذا التحذير لذريته وأَعْلَمَهٌم أن الشيطان عدو. ولكن الغفلة حين تسيطر على النفوس تفسح مجالا للشيطان لينفذ إلى نفس الإنسان، والشيطان- كما نعرف- للطائع ليفسد عليه طاعته، ولهذا يقول الله عنه: {لأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ} [الأعراف: 16].
إذن فمقعد الشيطان ليس في الخمارة أو في مكان فساد، إنما يجلس على باب المسجد، لكي يفسد على كل ذاهب إلى الطاعة طاعته. وهذا معنى: {لأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ}؛ ولذلك كانوا يقولون: إن الطوائف الأقلية غير المسلمة في أي بلد إسلامي لا تحدث بينهم الشحناء، ولا البغضاء، ولا حرق الزروع ولا سمّ الشيطان ضمن أن هؤلاء وصلوا إلى قمة المعصية فابتعد عن إغوائهم، أما المسلمون فهم أهل الطريق المستقيم، لذلك يركز الشيطان في عمله معهم، إذن فما دام عمل الشيطان على الطريق المستقيم فهو يأتي لأصحاب منهج الهداية، أما الفاسق بطبيعته، والذي كَفَرَ كُفر القمة فالشيطان ليس له عمل معه؛ لأنه فعل أكثر مما يطلب الشيطان من النفس البشرية.
والحق سبحانه وتعالى يقول: {وَالَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ رِئَاءَ النَّاسِ} أي: أنفقوا وأنقصوا ما لهم فلماذا المراءاة إذن؟ لأن الشيطان قرينهم، وعندما ينفقون فهذا عمل طاعة، ولماذا يترك لهم هذا العمل ليسلم الثواب لهم؟ فلابد أن يفسد لهم هذا العمل الذي عملوه، وهو يقول: {وَمَن يَكُنِ الشَّيْطَانُ لَهُ قَرِينًا فَسَاءَ قِرِينًا} مثل هذا القرين أيمدح أم يذم؟ إنه يذم بطبيعة الحال؛ ولذلك قال الله: {فَسَاءَ قِرِينًا} أي بئس ذلك القرين، فالقرين الذي يلفتك عن فعل الخير هو الذي بعد أن أنقص مالك بالنفقة أفسد عليك الثواب بالرياء. اهـ.

.فوائد لغوية وإعرابية:

قال ابن عادل:
قوله: {والذين يُنْفِقُونَ} فيه ثلاثة أوْجُه:
أحدها: أن يكون مَرْفُوعًا عطفًا على {الذين يَبْخَلُونَ}، والخبر: أن الله لا يَظْلِم كما تقدم وصفه.
والثاني: مجرور عَطْفًا على {الكافرين} أي: أعْتَدْنا للكافِرِين، والذين يُنْفِقُون أموالهم رئاء النَّاسِ، قاله ابن جَرِير.
الثالث: أنه مُبْتَدأ، وخبره مَحْذُوف، أي: معذَّبُون أو قَرِينُهم الشَّيْطَان، فعلى الأوَّلَيْن يكون من عَطْف المُفردات، وعلى الثالث من عَطْفِ الجُمَل.
قوله: {رِئَاءَ الناس} فيه ثلاثة أوْجُه:
أحدُها: أنه مَفْعُول من أجْلِه، وشُرُوط النَّصْبِ متوفِّرة.
الثاني: أنه حَالٌ من فَاعل {ينفقون} يعني: مصْدرًا واقعًا مَوْقع الحالِ، أي: مرائين.
والثالث: أنه حَالٌ من نَفْس المَوْصُول، ذكره المَهْدَوي، و{رئاء} مصدر مُضَافٌ إلى المَفْعُول.
وقوله: {وَلاَ يُؤْمِنُونَ بالله} فيه ثلاثة أوجه:
أحدها: أنه مُسْتأنف.
والثاني: أنه عَطْف على الصِّلة، وعلى هذين الوَجْهَيْن، فلا مَحَلَّ له من الإعْرَابِ.
والثالث: أنه حالٌ من فاعل يُنْفِقُون، إلا أن هذين الوَجْهَيْن الأخيريْن، أعني: العطف على الصِّلة، والحالية مُمْتَنعان على الوجْه المَحْكِيّ عن المَهْدَوي، وهو كون {رئاء} حالًا من نَفْسِ المَوْصُول؛ لئلا يَلْزَم الفَصْل بين أبعاض الصِّلة، أو بين الصِّلة ومعمولها بأجْنَبِيّ، وهو {رِئَاءَ}؛ لأنه حَالٌ من المَوْصُول لا تعلُّق له بالصِّلَة، بخلاف ماع إذا جَعَلْنَاه مَفْعُولًا له أو حَالًا من فَاعِل {يُنْفِقُونَ} فإنَّه على الوَجْهَين معمول لـ {يُنْفِقُونَ} فليس أجْنَبِيًّا، فلم يُبَالَ بالفَصْل به، وفي جَعْلِ {وَلاَ يُؤْمِنُونَ} حالًا نَظرٌ؛ من حَيْث أن بَعْضهم نَصَّ على أنَّ المُضَارع المُنفِيّ بـ {لا} كالمُثبت؛ في أنَّه لا يَدْخل عَليْه واو الحَال، وهو مَحَلُّ تَوَقُّف، وكرِّرت لا في قوله تعالى: {وَلاَ يُؤْمِنُونَ بالله وَلاَ باليوم الآخر}؛ وكذا الباء إشعارًا بأنَّ الإيمان مُنتفٍ عن كلِّ على حدته كما لو قُلت: لا أضرب زيدًا أو عَمْرًا، احْتمل في الضَّرْب عن المَجْمُوع، ولا يَلْزَم منه نَفْي الضَّرْب عن كل وَاحِدٍ على انْفِرَادِه، واحتمل نَفْيه عن كُلِّ واحِدٍ بالقرآنِ.
وإذا قُلْت ولا عَمْرًا، تعيَّن هذا الثَّاني.
قوله: {فَسَاءَ قِرِينًا} وفي {فساء} هذه احتمالان:
أحدهما: أنَّها نقلت إلى الذَّمِّ، فجرت مُجْرى بِئْسَ، ففيها ضَميرٌ فاعلٌ لها مُفَسِّر بالنكِرَة بعده، وهو {قِرِينًا} والمخصُوص بالذَّمِّ مَحْذُوف، أي: فَسَاءَ قرينًا هُوَ، وهو عائد إما على الشَّيْطَان، وهو الظَّاهِر، وإمَّا على مَنْ، وقد تَقَدَّم كم نِعْم وبِئْس.
الثاني: على بابها، فهي مُتَعَدِّية، ومَفْعُولها مَحْذُوف، وقرينًا على هذا مَنْصُوب على الحَالِ أو على القَطْعِ، والتَّقدير: فساءَهُ، أي: فساء الشَّيْطَان مُصَاحَبَة؟
قال القُرْطُبِي: {قِرِينًا} مَنْصوب على التَّمييز، واحتجُّوا للوجْه الأوَّل بأنَّه كان يَنْبَغِي أن يحذف الفَاءَ من فَسَاءَ، أو تَقْتَرِن به قَدْ، لأنه حينئذٍ فِعْل مُتَصرِّف ماض، وما كان كذلِك ووقع جوابًا للشَّرْط، تَجَرَّد من الفَاءِ أو اقْتَرَن بقد، هذا معنى كَلاَم أبِي حيَّان.
قال شهاب الدين: وفيه نَظَر؛ لقوله تعالى: {وَمَن جَاءَ بالسيئة فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ فِي النار هَلْ تُجْزَوْنَ إِلاَّ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} [النمل: 90] {وَإِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِن دُبُرٍ فَكَذَبَتْ} [يوسف: 27] مما يُؤوّل به هذا ونحوه يَتَأوّل به هذا، وممَّن ذَهَب إلى أن {قِرِينًا} منصوب على الحالِ ابن عَطِيَّة، ولكن يُحْتَمل أن يكُون قَائِلًا بأن سَاءَ متعدِّيَة، وأن يكون قَائِلًا برأي الكُوفيِّين، فإنَّهم يَنْصُبُون ما بَعْدَ نِعْمَ وبِئْسَ على الحَالِ.
والقَرِين: المُصَاحِب الملازِم وهو فعيل بِمَعْنَى مُفَاعِل: كالخَليطِ والجَليسِ، والقَرَنُ: الحَبْل؛ لأنه يُقْرَنَ به بَيْنَ البعيريْن قال: [البسيط]
وَابْنُ اللَّبَون إذَا مَا لُزَّ فِي قَرَنٍ

. اهـ. بتصرف يسير.

.تفسير الآية رقم (39):

قوله تعالى: {وَمَاذَا عَلَيْهِمْ لَوْ آَمَنُوا بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقَهُمُ اللَّهُ وَكَانَ اللَّهُ بِهِمْ عَلِيمًا (39)}

.مناسبة الآية لما قبلها:

قال البقاعي:
ولما كان التقدير: فماذا لهم في الكفر والإنفاق رياء لمن لا ضر ولا نفع بيده؟ عطف عليه قوله تعنيفًا لهم وإنكارًا عليهم: {وماذا عليهم} أي من حقير الأشياء وجليلها {لو آمنوا بالله} أي الذي له كل كمال، وبيده كل شيء {واليوم الآخر} الحامل على كل صلاح {وأنفقوا}.
ولما وصفهم بإنفاق جميع أموالهم للعدو الحقير أشار إلى شحهم فيما هو لله العلي الكبير بشيء يسير يحصل لهم به خير كثير، فقال: {مما رزقهم الله} الذي له الغنى المطلق والجود الباهر، ولما كان التقدير: فقد كان الله عليهم لما بذروا أموالهم قديرًا، عطف عليه قوله: {وكان الله} أي المحيط بصفات الكمال {بهم} أي في كلتا الحالتين {عليمًا} أي بليغ العلم، وللإعلام بعظمة العلم بهم قدم الجار المفيد للاختصاص في غير هذا الموضع. اهـ.

.من أقوال المفسرين:

.قال الفخر:

قوله: {وَمَاذَا عَلَيْهِمْ} استفهام بمعنى الإنكار، ويجوز أن يكون ماذا اسما واحدا، فيكون المعنى: وأي الشيء عليهم، ويجوز أن يكون ذا في معنى الذي، ويكون ما وحدها اسما، ويكون المعنى: وما الذي عليهم لو آمنوا. اهـ.
قال الفخر:
احتج القائلون بأن الإيمان يصح على سبيل التقليد بهذه الآية فقالوا: إن قوله تعالى: {وَمَاذَا عَلَيْهِمْ لَوْ ءامَنُواْ} مشعر بأن الإتيان بالإيمان في غاية السهولة، ولو كان الاستدلال معتبرا لكان في غاية الصعوبة، فإنا نرى المستدلين تفرغ أعمارهم ولا يتم استدلالهم، فدل هذا على أن التقليد كاف.
أجاب المتكلمون بأن الصعوبة في التفاصيل، فأما الدلائل على سبيل الجملة فهي سهلة، واعلم أن في هذا البحث غورا. اهـ.
قال الفخر:
احتج جمهور المعتزلة بهذه الآية وضربوا له أمثلة، قال الجبائي: ولو كانوا غير قادرين لم يجز أن يقول الله ذلك، كما لا يقال لمن هو في النار معذب: ماذا عليهم لو خرجوا منها وصاروا إلى الجنة، وكما لا يقال للجائع الذي لا يقدر على الطعام: ماذا عليه لو أكل.
وقال الكعبي: لا يجوز أن يحدث فيه الكفر ثم يقول: ماذا عليه لو آمن.
كما لا يقال لمن أمرضه: ماذا عليه لو كان صحيحا، ولا يقال للمرأة: ماذا عليها لو كانت رجلا، وللقبيح: ماذا عليه لو كان جميلا، وكما لا يحسن هذا القول من العاقل كذا لا يحسن من الله تعالى، فبطل بهذا ما يقال: إنه وإن قبح من غيره، لكنه يحسن منه لأن الملك ملكه.
وقال القاضي عبد الجبار: إنه لا يجوز أن يأمر العاقل وكيله بالتصرف في الضيعة ويحبسه من حيث لا يتمكن من مفارقة الحبس، ثم يقول له: ماذا عليك لو تصرفت في الضيعة، وإذا كان من يذكر مثل هذا الكلام سفيها دل على أن ذلك غير جائز على الله تعالى، فهذا جملة ما ذكروه من الأمثلة.
واعلم أن التمسك بطريقة المدح والذم والثواب والعقاب قد كثر للمعتزلة، ومعارضتهم بمسألتي العلم والداعي قد كثرت، فلا حاجة إلى الإعادة. اهـ.

.قال ابن عطية:

وكأن هذا الكلام يقتضي أن الإيمان متعلق بقدرتهم ومن فعلهم، ولا يقال لأحد: ما عليك لو فعلت إلا فيما هو مقدور له، وهذه شبهة للمعتزلة، والانفصال عنها أن المطلوب إنما هو تكسبهم واجتهادهم وإقبالهم على الإيمان، وأما الاختراع فالله المنفرد به، وفي هذا الكلام تفجع ما عليهم، واستدعاء جميل يقتضي حيطة وإشفاقًا. اهـ.

.قال الفخر:

والمعنى أن القصد إلى الرئاء إنما يكون باطنا غير ظاهر، فبين تعالى أنه عليم ببواطن الأمور كما هو عليم بظواهرها، فإن الإنسان متى اعتقد ذلك صار ذلك كالرادع له عن القبائح من أفعال القلوب: مثل داعية النفاق والرياء والسمعة. اهـ.

.قال السمرقندي:

{وَكَانَ الله بِهِم عَلِيمًا} أنهم لم يؤمنوا.
ويقال: إن الله عليم بثواب أعمالهم، ولا يظلمهم شيئًا من ثواب أعمالهم. اهـ.

.قال ابن عطية:

{وكان الله بهم عليمًا} إخبار يتضمن وعيدًا، وينبه على سوء تواطئهم، أي: لا ينفعهم كتم مع علم الله تعالى بهم. اهـ.

.قال السعدي:

ولما كان الإخلاص سرًّا بين العبد وبين ربه، لا يطلع عليه إلا الله أخبر تعالى بعلمه بجميع الأحوال فقال: {وَكَانَ اللَّهُ بِهِمْ عَلِيمًا}. اهـ.